Pages

dimanche 27 janvier 2013

التعريب

التعريب
*معنى التعريب:‏
قد يكون للفظ الواحد في كل لغة معان متعددة، وكذلك الشأن في اللغة العربية. والتعريب من الألفاظ المتعددة المعاني أي المشتركة. وهو مصدر عرّب بالتضعيف. يُقال عرّب فلان منطقه هذّبه من اللحن، وعرّب الاسم الأعجمي تفوّه به على منهاج العرب وصيره عربياً، وعرّب عن صاحبه تكلم عنه واحتج له. وقد ورد قولهم: أعرب الأعجمي وتعرّب واستعرب كل هذا للاغتم إذا فهم كلامه بالعربية. والأغتم من لا يفصح شيئاً. وللفظ عرّب معان أخرى نضرب صفحاً عن ذكرها لأنها بعيدة عن الموضوع الذي نعالجه.‏
ولقد تدرج لفظ عرّب بهذه المعاني المتقاربة بعض الشيء منذ القديم إلى معنى ترجمة النصوص الأجنبية ونقلها إلى العربية وتعليم العلوم الأجنبية بالعربية، وهو موضوعنا في هذا البحث.‏

*
تعريب الشعب العربي للعلوم في الحضارة العربية الإسلامية:‏
من مزايا الشعب العربي في حضارته الإسلامية رفعه مرتبة العلم والمعرفة فوق كل مرتبة. إنه اعتبر كلاًّ من التعلم والتعليم فرضاً، كما حثّ على النظر في آفاق الكون وفي أسرار النفس الإنسانية وجوانب المجتمع الإنساني بحيث يغدو كل كشف علمي في هذه الميادين تقرباً من الله وتفهماً لكلماته التي لا تنتهي، وكما اعتبر العالم أعلى من العابد بمراتب كثيرة. هذا الاتجاه جعل صفوة الناس الموهوبين من الشعب تنهد إلى تجميع تراث الشعوب الأخرى من صين وفرس ويونان وإلى الحث على ترجمته ونقله إلى اللغة العربية. فصانوا بعملهم ذلك التراث الذي كان معرضاً للتبعثر والضياع وسعوا لنشره وتنظيمه وتمثله والزيادة فيه ما أمكنتهم الزيادة من ثاقب فهم ومن تجارب جديدة ومن كشوف طريفة امتلأت بها الكتب والمؤلفات. وهذا جلي عند تصفح سجلات التاريخ وإن حاول بعض المتنطعين المتعصبين من الغربيين والأمريكيين أن يحجبوا تلك المآثر وأن يطمسوا تلك المكارم.‏
وقد بلغ التعريب أوجه في زمن الخليفة العباسي المأمون. ولقد كان عصره مزهواً بالعباقرة والعلماء والمفكرين في كل علم وفن. جاء في كتاب "الغيث المسجم في شرح لامية العجم": أن المأمون لم يبتكر النقل والتعريب بل سبقه قبله كثير، فإن يحيى بن خالد البرمكي عرّب من كتب الفرس كثيراً مثل كليلة ودمنة وعرّب لأجله كتاب المجسطي من كتب اليونان. والمشهور أن أول من عرّب كتب اليونان خالد بن يزيد بن معاوية لما أولع بكتب الكيمياء. ثم يقول المؤلف: "وللتراجمة في النقل طريقان: أحدهما طريق يوحنا بن البطريق وابن الناعمة الحمصي وغيرهما وهو أن ينظر إلى كل كلمة مفردة من الكلمات اليونانية وما تدل عليه من المعنى فيأتي بلفظة مفردة من الكلمات العربية ترادفها في الدلالة على ذلك المعنى فيثبتها وينتقل إلى الأخرى كذلك حتى يأتي على جملة ما يريد تعريبه. وهذه الطريقة رديئة لوجهين أحدهما أنه لا يوجد في الكلمات العربية كلمات تقابل جميع الكلمات اليونانية ولهذا وقع في خلال هذا التعريب كثير من الألفاظ اليونانية على حالها. الثاني أن خواص التركيب والنسب الإسنادية لا تطابق نظيرها من لغة إلى أخرى دائماً. وأيضاً يقع الخلل من جهة استعمال المجازات وهي كثيرة في جميع اللغات.‏
الطريق الثاني في التعريب طريق حنين بن إسحاق والجوهري وغيرهما وهو أن يؤتى إلى الجملة فيحصِّل معناها في ذهنه ويعبر عنها في اللغة الأخرى بجملة تطابقها سواء ساوت الألفاظ أم خالفتها. وهذه الطريقة أجود ولهذا لم تحتج كتب حنين بن إسحاق إلى تهذيب إلا في العلوم الرياضية لأنه لم يكن قيِّماً بها بخلاف كتب الطب والمنطق والطبيعي والإلهي فإن الذي عربه منها لم يحتج إلى إصلاح، أما أوقليدس فقد هذبه ثابت بن قرة الحراني وكذلك المجسطي والمتوسطات بينهما".‏
كان العلماء متعاونين يسعى الواحد منهم إلى تلمس المواهب عند الناشئة فيقدمهم ويعلي شأنهم ويدعمهم عند المسؤولين. تلك سنَّة العلماء الحقيقيين. يرجع الفضل في ظهور ثابت بن قرة بسلالته مثلاً إلى محمد بن موسى الخوارزمي يذكر صاحب الفهرست أن ثابتاً كان صيرفياً بحران، استصحبه محمد بن موسى لما انصرف من بلد الروم لأنه رآه فصيحاً. وقيل أنه قرأ على محمد بن موسى فتعلم في داره فوجب حقه عليه فوصله بالمعتضد وأدخله في جملة المنجمين. وأصل رئاسة الصائبة في هذه البلاد وبحضرة الخلفاء ثابت بن قرة ثم ثبتت أحوالهم وعلت مراتبهم وبرعوا.‏
إن محمد بن موسى الخوارزمي(1) يقول فيه وفي أخويه أحمد والحسن صاحب الفهرست "وهؤلاء القوم ممن تناهى في طلب العلوم القديمة وبذل فيها الرغائب واتعبوا نفوسهم وأنفذوا إلى بلد الروم من أخرجها إليهم فأحضروا النقلة من الأصقاع والأماكن بالبذل السني فأظهروا عجائب الحكمة وكان الغالب عليهم من العلوم الهندسة والحيل (الميكانيك) والحركات والموسيقى والنجوم.‏

دور تعريب التعليم الجامعي في تطوير العلم العربي ونشره وبثه بين الجماهير:‏
الجامعات صوامع المعرفة وأنبار العلم وينابيع التفكير ومصادر التجديد إذا كان التعليم العالي فيها باللغة القومية. ذلك أنه فيها يتخرج رجال الفكر والأطباء والمهندسون والمحامون وأصحاب القانون والصيدلانيون والإداريون والقادة والأساتذة والمعلمون والمتخصصون في ضروب العلم والمعرفة. ولا شك أنهم إذا جروا على ممارسة التفكير والإعراب عن بنات أفكارهم وثمرات قرائحهم بلغتهم القومية العربية أدى ذلك إلى تطور العلم العربي، لأنه لا شيء إلا وهو رهن الحركة الدائبة والصيرورة المستمرة. وإنما تتم الصيرورة والحركة الحيويتان بالممارسة والمزاولة والتعامل والتعهد. وفقدانهما معناه الجمود والموت. ثم إن كلاًّ من أولئك المفكرين الممارسين ينتسب إلى أسرة وله أصدقاء ورصفاء ويختلف إلى أندية وجماعات ويشارك في مناقشات ويزاول التفكير والبحث أيَّاً كان مداهما وأغوارهما. فإذا جرى على التعبير والإعراب عن أفكاره في بحوثه ومناقشاته وتعليمه وكتاباته بلغته القومية وبشكل سليم صحيح ما أمكن أفضى ذلك إلى الارتفاع بلغة الجماهير. والناس – كما نوّه ابن خلدون – مولعون بالاقتداء. فهم يقتدون بمن هم أعلى منهم مكانة وثقافة ومرتبة ويلتقطون تعبيراتهم ومفرداتهم التي يستعملونها ويتأثرون ببيانهم الذي يسمعونه أو يقرؤونه. ولذلك كله كان من الطبيعي أن يكون تعريب التعليم العالي سبباً لذيوع العلم العربي وتطوره ولنشره وبثه بين الجماهير. يضاف إلى ذلك ما يتعلق بوسائل الاتصال من مجلات وصحف وإذاعة سمعية وبصرية. فإن أولئك المتخرجين بحكم تحصيلهم باللغة القومية ودربتهم عليها يتيسر لهم الإعراب عن أفكارهم وعن معلوماتهم وعمّا يجول في عقولهم ويتلامح في خواطرهم وأمانيهم بهذه اللغة التي ما فتئوا يمارسونها، كما يتيسر الارتفاع التدريجي بها. إن الجماهير مهما تقلبت السياسات تابعة لأولي الرأي والثقافة والعلم في الغالب. وهذه التبعية إنما تتم بطريق التفاهم العميق وهو اللغة القومية. وليست التبعية مقصورة على الجماهير بل هي حاصلة لدى النشء. والناشئ الذي يشب وهو يسمع لغة صقلها العلم وهذبتها المعرفة يغدو متمرساً بها ولافتاً لمفرداتها ومتفتحاً عقله وملكاته للإفادة من مضامينها العلمية والفكرية والفنية ولهذا نرى أن النهوض بالفكر لدى الشعب يتهيأ من الأعلى أي على طريق التثقيف والتعليم في الجامعات وإعداد رجال الفكر والعلم من أطباء ومهندسين ومحامين وأساتذة وأدباء وغيرهم. وهذا لا يتحصل إلا إذا كان التعليم العالي باللغة القومية وتمكن كل مختص من تبوؤ المكان المناسب له.‏

*دور التعريب في القضاء على الاستلاب الثقافي وعلى الشعور بالتبعية والعجز عن الإبداع:‏
يشعر المتعلمون والمثقفون من العرب تجاه علوم الغرب وفنونه بمشاعر قصور عميق وتأخر كبير تشبه المشاعر التي ندد بها الشاعر الإيطالي بترارك إبان النضهة الغربية إزاء ثقافة العرب وبيانهم. فقد أزرى ذلك الشاعر بمواقف أبناء قومه الفاشلة وبإقرارهم بالعجز عن مضاهاة العرب ومجاراتهم. ومع ذلك لم يلبث الإيطاليون وكذلك الإسبانيون أن تخلصوا من تلك المشاعر بالإرادة والعزيمة والعمل فأشعلوا أولى نيران النهضة في أوربة على الرغم من الاضطراب والخلل في بواكير أعمالهم وكتاباتهم وعلى الرغم من انتحالهم مضامين الفكر العلمي العربي أو تقليدهم له. والمطلع على تاريخ لغاتهم الحديثة اطلاعاً مفصلاً يعجب من مدى عجمتها واختلاطها واضطراب مفرداتها ومصطلحاتها ليخلص إلى أن الزمن كفيل بصقل ذلك الاضطراب وإصلاح ذلك الخلل وتصحيح الزيغ وتجاوز الاختلاط وإيضاح العجمة والإبهام والاستغلاق إذا رزق الشعب ولو إلى حدٍ مناسب حسن التوجيه واحترام الثقافة وحظ التعاون وجمال الصبر. كان لفظ الفيلسوف إذا أطلق في أوائل النهضة الأوربية مرادفاً للفظ العربي ولكن الأوربيين لم يلبثوا حين لحقوا بركب الحضارة العربية أن حاولوا طمس مصادر معلوماتهم وثقافاتهم وأصول جذا الأنوار في مشاعل مدنيتهم الباكرة.‏

*
دور تعريب التعليم العالي في تطوير اللغة العربية وتجديدها وتحقيق قدرتها الكاملة على استيعاب العلوم الحديثة.‏
لا بدّ في تعريب التعليم العالي ونقل العلوم والمعارف الحديثة إلى ظلال اللغة العربية الوارفة من إحياء ألفاظ قديمة واستحداث مصطلحات جديدة تفي بحاجات الدلالات وتؤدي حقائق التصورات والمفاهيم المستجدة وتواتي الأغراض الفكرية.‏
وهذا كله يؤدي إلى تطور اللغة العربية وإلى حقن نسغ جديد يزيد في حيويتها وغناها ويضمن تدفقها وثراءها في شتى المجالات وتحقيق استيعابها لأغراض الحضارة الحديثة في ميادينها المختلفة. وهذا شأن اللغات جميعها سواء في غابرها وفي حاضرها إذ لا مندوحة لها عن قيام صلات واشجة بينها وبين اللغات الأخرى. وقد تطغى لغة على لغة وقد تزيد الواحدة في ثراء الأخرى وغناها. ولكل لغة أيَّاً كانت مزايا تنفرد بها. وهذه المزايا تناسب وجهاً أو أكثر من وجوه التعبير العلمي والأدبي. كنا في مقال سابق(3) شبهنا اختلاف وجوه التعبير في اللغات باختلاف مزايا نظم العد من عشري وثلاثي واثنيني واثني عشري وستيني وغيرها. ومن المعروف صعوبة إفادة الثلث تاماً في الكسور العشرية وتسهل إفادته في الجملة الثلاثية التي أساسها الثلاثة دون العشرة. وكذلك النصف تسهل إفادته التامة في الجملة العشرية وفي الجملة الاثنينية وتصعب في الجملة الثلاثية وهكذا دواليك إذا توسعنا في أنواع الجمل والنظم الحسابية وإفادة الكسور فيها. ومع ذيوع الجملة العشرية أو نظام العد العشري نجد في العصر الحاضر أهمية النظام الاثنيني في ميدان الحاسبات الإلكترونية.‏

*دور التعريب في نشر اللغة العربية والعلم العربي والثقافة العربية خارج إطار الوطن العربي ولا سيما في البلاد الإسلامية.‏
ثمّة وشائج تاريخية وثيقة بين التراث العربي وتراث كثير من البلدان الأجنبية ولا سيما الإسلامية لأن شعوب هذه البلدان قد شاركت في تألق الحضارة العربية وعلومها وفنونها وصناعاتها. لقد التقينا في إحدى زياراتنا لبلغاريا وفداً هندياً أخبرنا أحد أعضائه وهو غير مسلم أنه لما كان صبياً صغيراً أرسله والده إلى مدرسة عربية بالهند إذ كانت اللغة العربية معتبرة إذ ذاك لغة الحضارة ثم حلت اللغة الإنكليزية التجارية المستعمرة محل اللغة التي تنادي بأن الخلق كلهم عيال الله فأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله.‏

كانت اللغة العربية حقبة طويلة من الزمان لغة تلك الشعوب العلمية والفكرية. ولذلك نجد أن لغات تلك الشعوب قد استمدت من العربية ألفاظاً حضارية ومصطلحات علمية كثيرة. ومثَل هذه اللغات في العصر الحاضر مثَل اللغة العربية في الحاجة إلى نسغ جديد يجري في عروقها ويقوّي مناعتها ويبث فيها الحداثة والمرونة والطواعية. ولما كان جزء لا بأس به منها آتياً من العربية ولا سيما ماكان منه حضارياً وفلسفياً ودينياً وعلمياً لزم أن تقوم بذلك الأخت الكبرى لتلك اللغات وهي العربية فتعمد إلى وضع المصطلحات المستجدة وضرب المثل الصالح في التعبير السليم والبيان الصحيح الموائم للأغراض الحديثة والأفكار الجديدة. وقد بلونا ذلك حين وضعنا نحن والمرحوم الدكتور الشافعي النص العربي للمعجم الديمغرافي المتعدد اللغات وسبقنا في ذلك طائفة من البلدان حتى المتقدمة منها في اعتماد ذلك المعجم العالمي الذي ظهر أول الأمر باللغات الثلاث الإنكليزية والفرنسية والإسبانية، لغات منظمة الأمم الرسمية إذ ذاك. فإذا بالاتحاد العالمي للدراسة العلمية للسكان يكتب إلينا يستعلم طريقة الحصول على المعجم العربي لأن بلداناً أخرى هي تركيا وإيران وباكستان وأندونيسيا رغبت في اقتنائه ابتغاء الاستفادة منه لوضع النص بلغتها القومية. ونحن على يقين بأن اللغة العربية بين جميع اللغات قادرة على القيام بأعباء التعريب من كل نوع نظراً لغناها وتعدد سبل البيان فيها ودقتها وملاءمتها لشتى الأغراض على أن ينهض به ويشرف عليه الأكفياء أهل العلم والمعرفة.‏

*
دور التعريب في توليد نظرة حضارية عربية واحدة أصيلة وحديثة.

من تعدد الثقافات الأجنبية التي تحملها الأجبيال العربية المثقفة تثقيفاً عالياً صحيحاً وانصهارها في بوتقة تعريب التعليم الجامعي تتولد سبيكة أو أشابه من الجواهر الفكرية الراقية تنشأ عنها بالإضافة إلى الثقافة العربية التراثية نظرة حضارية عربية أصيلة وحديثة. ذلك أن الاقتباس من الثقافات الأخرى مع الحفاظ على الأصالة القومية كالاقتباس من شعل النيران يزيد التوقد ويبث الحركة والتوثب الفكريين نحو الأعلى في مجاراة الأُمم الحديثة الأخرى. ولما كانت البلاد العربية غنية بمكانتها المتنوعة الغزيرة غدت تتسع اتساعاً وافياً لمختلف الثقافات الأجنبية وهي قادرة على تمثلها مع الزمن. يبدو الزمن هنا ذا قيمة كبرى في التطور. وكما أن الأغراس في الحدائق تحتاج إلى برهة للتلاؤم هي والشروط الخارجية من تربة ورطوبة وحرارة وتغذية ورعاية وتعهد دائم لكي تنمو وتقوى وتتفرع وتزهر وتؤتي بالثمار الزكية تحتاج الأجيال إلى فترات زمنية ذات إيقاع مناسب لكي تتفاعل ثقافاتها وتتهيأ للنهوض والتفتح وإنشاء حضارة جديدة ذات كيان أصيل. هكذا تم نهوض الأُمم وظهورها بالتدرج على صعيد الحضارة العالمية. ولكنه تم أيضاً بالدعم الفعّال من قِبل المسؤولين والتعهد الدائم لنسغ الحضارة المتولد وتشجيع الأكفياء في كل ميدان، بل بمشاركة المسؤولين أنفسهم في تلك العلوم والمعارف لكي يضربوا الأمثلة الصالحة ويكونوا القدوة المثلى في الحث على العلم وتكريم أربابه ورجالاته وإعلاء شأن الإبداع والابتكار: لقد كان الأمير خالد بن يزيد من كبار المهتمين بالعلوم، الحراص على الإلمام بدقائقها. وكان الخليفة المأمون له مجالس علمية يخوض في كل فن يجري ببحثه فيها. وكان يقدم العلماء ويسبغ عليهم أفضل التقدير والتكريم. وكذلك نجد مثل هذا في عهود الخلفاء الأندلسيين ولدى الملوك الفاطميين والأيوبيين، إذ لا تقدم يحصل دون إعلاء شأن العلم وتكريم العلماء. على أن التاريخ والتراث والأعراف العربية من حقائقها دعم ذلك الاتجاه وتجسيده. فلا غرو أن يولي المسؤولون في أجواز الوطن العربي دور العلم وبيوته رعايتهم الكريمة وتعهدهم الثري المثمر.‏

*
دور التعريب في رفع الدراسات العليا وفي إعداد الهيئة التدريسية الجامعية إعداداً ملائماً لحاجات الوطن العربي وفي الحد من عدد البعثات العلمية إلى الخارج ومن هجرة الكفايات العلمية بالتالي.

إذا تولدت تلك الأشابه أو السبيكة المشار إليها آنفاً من صهر الثقافات المتعددة في الوطن العربي تكوّن لدى الأجيال العربية معارف توازي معارف الأمم الحديثة في العلوم والفنون وأصبح لهذه المعارف ينابيع ثرة عذبة في جامعات البلاد ومعاهدها تفجرها الأجيال العربية أنفسها ويردها الطلاب يمتاحون من معينها الفرات بل يكونون هم أنفسهم تلك الينابيع بما أوتوا من تثقيف صحيح وتعليم منهجي رفيع وحصانة ذاتية في التفكير وزكانة ملهمة في التأمل والبحث والتنقيب، لا كما هو حاصل الآن من إعادة ببغاوية لمعلومات الغرب أو الشرق واجترار آلي لمعارفهما وعدم النفوذ من خلالها إلى سر الإبداع والاختراع. لا شك أن تعريب التعليم العالي يستلزم حسن التأليف في العربية. ذلك أن التعريب لا يعني بحال من الأحوال التعليم بلغة عامية محلية لا أصول لها ولا قواعد بل هي تختلف من قطر إلى آخر وتتفاوت من صقع إلى غيره بحيث لا تستطيع الناشئة متى جد الجد أن يفهم بعضها بعضاً. وإنما المراد بالتعريب التعليم بلغة عربية سهلة سائغة دقيقة صحيحة جلية. لقد حدثني زميل في إحدى الكليات وهو أستاذ لإحدى مواد الكيمياء أن له بنتاً ناشئة تدرس شهادة الكيمياء في كلية أخرى أراد ذات يوم أن ينظر في الأمالي التي تتلقاها في كليتها فلم يفهم منها شيئاً لأنها أمليت بلغة عامية وكتبت عشوا بتلك اللغة. نحن نجرؤ فنقول: إن التعليم باللغة العامية أسوأ منه بلغة أجنبية، لأن اللغة الأجنبية ذات قواعد وأصول ومجال واسع في التأليف والمتابعة. وليس كذلك اللغة العامية المحلية.‏
إن أكبر أخطار الاستعمار التشكيك في صلوح اللغة العربية لاستيعاب التعبير والمصطلحات الحديثة والخفض من قيمة هذه اللغة. المهم أول الأمر وعلى رأس الطريق هو إتقان اللغة العربية إتقاناً كافياً فلا يسمح لمن يتولى التدريس ألا يكون لديه مثل هذا الإتقان. وليس ذلك بعسير. إن إتقان اللغة القومية شاهد على كفاية الأستاذ كما أن عدم إتقانها يحملنا على الشك في قيمة ما حصَّل من علوم أجنبية. اللغة في مجال التعريب قبل كل شيء آخر. هي مفتاح العلوم الأخرى. وإذا نمت اللغة العربية في المستقبل نمواً صحيحاً غدت تلقَّن للأجيال تلقيناً كما تلقَّن اللغات الحديثة الأجنبية. فاللغة تتوارث وتعلَّم بالتلقين والسماع والممارسة أكثر منها بالتعمق في أصولها وقواعدها. هذا التعمق مقصور على نخبة من الناس. ولكن الناشئة والطلاب وسائر الناس يتلقونها صحيحة سليمة من أفواه الأساتذة والمعلمين والعلماء والأنبياء. وعندئذ يفكرون ويتحدثون ويتناقشون ويكتبون ويؤلفون بلغتهم الحية لا تعمية فيها ولا إبهام ولا غموض إلا إذا أريد ذلك، وإن كان لا غنية لهم عن الإلمام ببعض القواعد. وهم بطبيعة الأمر ما دام العلم مبذولاً وسائغاً شرابه في جامعاتهم لا يحتاجون إلى انتجاع بلاد أخرى لطلب العلم إلا في مجال التبادل الثقافي الحقيقي الذي يقف العلماء من شتى الأقطار على صعيده مواقف متساوية ومتتامة.‏
هذا ولا شيء أشق على المرء، إذا غدا الجو الذي يعيش فيه حميداً وصالحاً لتكامل مواهبه واستمرار بحوثه وظهور كفاياته، من الغربة عن وطنه واقتلاع جذوره منه. وهكذا يضعف تيار هجرة الكفايات إلى بلاد أخرى. وإنما تقع الهجرة النازحة إذا نافت الشروط المحيطة بالمرء تفتُّح مواهبه وحرية تفكيره وشعر فيها بشل نشاطه وعدم القدرة على تحقيق مطامحه وعلى حماية نفسه وأسرته. الحرية والتعاون والمحبة وحماية الأنفس وتعهد المواهب الفكرية وتبوؤ الشخص المناسب المكان المناسب شروط أولى لغيض هجرة الكفايات الفكرية. إن أهم خصائص الإنسان الفكر وأعلى ملذاته العليا ممارسة هذه الخصائص فإذا حيل بينه وبين هذه الممارسة أو كانت هذه الممارسة في خطر عليه يمم وجهه شطر بلد آخر يحفظ له كرامته ويوفر له الحماية.

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire

 

Blogroll

أدخل بريدك الإلكتروني ليصلك جديد المواضيع و الأخبار المنشورة.

Blog Archive